بعد حصولي على اجازة الحقوق بتقدير عام جيد جداً من جامعة الكويت ، التفت نحوي حاملاً ثقل الماضي على منكبيه ليستعلم عن المستقبل .. ٍٍيستعلم عن وظيفتي الجديدة .. يستعلم عن الايام القادمة .. فقال بصوت عميق : ( بشر يا ولدي وين ناوي تتوظف ؟ ) فقلت له بكل حماس وفخر سأصبحُ محامياً .. نظر إلي وهو يردد باستغراب محامي ؟ محامي ماذا ياولدي ؟
عندها شرعت اشرح له معنى المحاماة وسبب اختياري لها وكيف ان المحاماة مهنة لا يَشق غبارها الا العظماء حيث فيها نصرة للمظلوم ومساعدة للمحتاج ومعاونة الحق على الباطل … فبها يرفع الحيف والغبن وبها يولي القهر الدبر وبها يشرق النور وينقشع الجور .. وكيف يكون ذلك اذا لم يتحلى المحامي بالصلابة والشجاعة مع العلم والفطنة ؟ فتلك هي المحاماة يا جدي .. مهنة عريقة ولها مكانه اجتماعية عظيمة … رُوادها هم فرسان للعدالة ينشرون في مجتمعهم ثقافة احترام القانون وبيان احكامه ومواده ولهذا استحقوا مكانتهم المرموقه وحق عليهم لقب فرسان العدالة .
وبعد ان قلتُ في مهنة المحاماة ما قاله قيس في ليلاه .. نظر الي بإشفاق وهو يتساءل ( وهل امسينا في زمنً يحتاج فيه الحقُ الى رجال تكون مهمتهم الدفاع عنه ونصرته ؟ فالحق كلنً يدافع عنه ياولدي والظلم محد يحبه!! ) كان يحاججني باستغراب وبنوع من الاستنكار ..هل قلت يحاججني ؟ .. الحق اقول لكم انه لم يكن يحاججني … بل كان يحاجج زماني بالمقارنة مع زمانه .. فهو ينتمي الى ذلك الزمان ( زمن الطيبين ) حيث كانت العدالة تجري في دماء الناس مجرى الدم في الوريد فلا يظلم الاخ اخاه ولا يعتدي الجار على جاره .. كان ينتمي الى زمن الاعراف .. زمن العادات والتقاليد الحقه .. زمن الحلال والحرام .. زمن تكون فيه كلمة الرجل اوثق من الف عقدٍ مبرم … وعلى الرغم من جهلهم في فك الحروف لأميتهم الا انهم كانوا يخشون الله ويتوخون العدل والانصاف وينفرون من الظلم والجور … فكان الضمير هو قاضيهم العادل .. فلم يكونوا بحاجة الى هيئة قضائية نصفها في النار اما بسبب القضاء بجهل او بسبب تأييد الباطل – كما انهم ليسوا بحاجه الى محامي جاهل اتخذ الكذب وسيلته للاقناع فصار كرجل البهلوان يقفز على حبال القانون لينسج منها شبكه من الاوهام .. فالضمير الحي هو كل ما احتاجوه وبهذا الضمير الحي عاشوا وفيه رحلوا دون ان يَظلموا او يُظلموا…
فعندما يكون ضمير الانسان هو قاضيه تسود العدالة وتصبح الحياة اكثر جمالاً .. الا انه وفي زماننا هذا قلما وجد الضمير الحي .. ومن هنا كانت الحاجة الى وجود الهيئة القضائية والى وجود المحامي حيث يدلل الشاعر الرائع سليمان الهويدي رحمه الله على ذلك المعني بأبياته الخالده ويقول :
لو تنصف الناس ما نحتاج للقاضي
تلقى المحاكم خفيفاتً مشاكلها
وهنا كانت حجة زماني مقابل زمان الجد (زمن الطيبين) – فالايام لم تعد حلوة كما كانت .. فقد انتشر الظلم وشاع بين الناس فصارت ساحات المحاكم بمثابه المنزل الثاني لأغلب البشر فلا يستطيع صاحب الحق الحصول على حقه ببساطة ! بل لابد له من المطالبه به والقتال من اجله !! … فحينها بات وجود المحامي ضرورة ملحة لا غنى عنها .. فقد تسلب الوزارة حقوق موظفيها بقرارٍ اهوج غير مدروس وربما ياكل الاخ من نصيب اخاه او يظلم الزوج زوجته ويحصل ان يتسبب احدهم بالضرر لاخر وقد يظلم احدهم نفسه فيتعثر بها نحو الضلال .. فكل ماسبق يحتم على صاحب الحق الاستعانة بفارس من فرسان العدالة حتى يساعدة في عودة حقه المسلوب او ربما يشفع له ويلتمس الرأفة لزللة غير المسبوق ولخطأة غير المقصود .
ولما غاب الضمير قاضياً .. ساد الظلم بين الناس .. فصار القضاء ضرورة حتمية للدفاع عن العدالة واقامة العدل .. فأصبح ينظر في اسباب النزاع ويفحص الاوراق ومن ثم يفصل في الحقوق.. ولهذا السبب امست الحاجة الى وجود المحامي ضروره ملحه بل ومضاعفة .. حتى يساعد المحتاج في تدارك الاخطاء الوارده في الاحكام القضائية وتعديل ميلانها في حال صدورها بالمخالفة لنصوص القانون .. وما اكثرها .
ولما انتهيت من بيان اهمية دور المحامي في هذا الزمان … نظر الي وهو يتمتم : ( الله يعينك يا ولدي الله يعينك ) وعلى الرغم من مرور الايام وتعاقب السنين على هذا الكلام الا انه لا يزال منقوشاً على جدار الذاكرة ويعن لي كلما واجهتني معضلة ما تتعلق بمهنتي كمحامي يسعى ان يبر بقسمه !
وبلا شك إن اصعب واشد معضله اواجهها اثناء عملي كمحامي هي اختلاف الرأي الى حد الصدام مع ( سعادة الرئيس ) الذي يملك كل شي في محرابه المقدس .. ولا املك امامه سوى القانون .. القانون الذي يخضع في نهاية المطاف الى فهم سعادته والى تفسير معاليه فيعتلي المنصه الشاهقه وينطق بحكمة الذي يحسم به عين النزاع فتكون النتيجة مخالفة للقانون .. ومن ثم يتركني اعيد كفاحي مع موكلي في اروقة المحاكم واعيد ما بدأته من جديد وذلك بالاعتراض على الحكم وبالطعن عليه امام اعلى المحاكم شأناً ..وبعد مضي خمسة اعوام وربما عشرة .. تبتُ اعلى محكمة لصالح موكلي وتؤيد وجهة النظر المبداة امام محكمة معاليه منذ عقد مضى … وحينها ينتصر العدل ويزهق الباطل .. ولكن بعد فوات الميعاد.
ان التلكؤ والتباطؤ في احقاق الحق يعد ظلماً بذاته – فما بالنا بضياع الحقوق نتيجة القضاء بجهل ؟ كم تمنيتُ لو تسمح القوانين عندنا بمخاصمة معاليه حتى يتمكن كل مظلوم من اللجوء الى محراب العدالة وان يطالب بالتعويض عن حقوقه المنقوصة الا إن معاليه لا يساءل على اخطاؤه ولا يحاسب على زلاته .. فقضاءه عنوان للحقيقه ، ولا حقيقه تعلوا على حقيقة معاليه .
وقد صدق المرحوم حينما قال لي ذات مرة ان مخافة الله هي رأس مال العدالة .. وللحديث بقيه مع سعادة الرئيس…