(تأملات في معنى الذاكرة والذكريات)
1
ماذا لو فقد سيزيف ذاكرته ؟
هب ان ذاكرته تدحرجت من علو واستقرت في سفح الجبل بجوار صخرته التي كان يحملها على منكبية ثم يصعد بها نحو الجبل واذا ثقلت على منكبيهحملها على ظهره ليواصل مسيرة نحو الأعلى بكل صبر وجلد وبعد ان يطوي نصف المسافة حاملاً صخرته على ظهره يلقيها على الأرض بعد ان تقوسوانحنى ظهره من فرط ثقلها فوقه ثم يبلع ريقه ويشرع في دفعها بيدية تارة وبقدمية تارة أخرى يريد ان يبلغ بها رأس القمة.
وهو على كفاحه ذاك حتى تتضح له القمة .. تتضح له النهاية ، نهاية الشقاء وبداية الهناء وحينهاتزداد همته وتقوى عزيمته للمضي قدماً وعلى تحقيق الخلاص من عذابه القديم … وعلى بعد خطوة او خطوتين من الوصول الى قمة الجبل ومنالفوز بالخلاص يستجمع سيزيف كل ما تبقى له من طاقة ليدفع بها الصخرة للأعلى حتى تصل الى مستقرها ، وفي هذه اللحظة تحديداً تخونه قواهعلى حين غرة فيخر ساقطاً على الأرض من هولالتعب تاركاً صخرته تتحرك للإمام قليلاً ثم تتراجع الى الخلف لتبدأ بالتدحرج للاسفل ببطيء حتى تتسارع في دورانها ثم ترتطم بالأرض لتستقر في اسفل الجبل ، وهو لا يقدر ان يصنع شيئاً سوى مشاهدتها وهي في رحلتها نحو الهاوية ، حينها لا يملك الشقي سيزيف الا شعوره بالغضب العارم ليدخل في نوبه من الصراخ ومن اللعن .. يصرخ ويلعن الحظ بأعلى صوته وفي بعض الأحيان يبكى بصمت دون ان يصرخ ودون ان يلعن .. وبعد ان تهدأ نفسه يجمع قواه وينفظ غباره ثم ينزل الى الاسفل باحثاً عن صخرته حتى يعاود المحاولة مرة أخرى فيحملها على منكبيه مرة أخرى ليعاند حظه السيئ ويأمل الفلاح في هذه المرة الا انه ما ان يقترب من ذات المسافة بخطوة او خطوتين .. حتىتخونه قواه مرة أخرى لتعيد فصول الحكاية مرة أخرى وليكرر الشقي سيزيف ذات السيرة في مشهد سريالي لعقوبة ابدية لا يمكن الخلاص منها .
ولكن ماذا لو فقد سيزيف الذاكرة ؟ الا يتحقق الخلاص بفقدانه للذاكرة ؟ كل من عرف سيرة الشقي سيزيف سيدرك قطعاً ان فقدان الذاكرة بحالة سيزيف هو بمثابة الخلاص من العقاب الابدي والتفاف عبقري على العقوبة المؤلمة .
ونحن كذلك مع ذاكرتنا المليئة بالألآم حالنا كحال صخره سيزيف ، فالذاكرة اما ان تكون قصاص واما ان تكون خلاص – ولكل شيء فينا ذاكرته الخاصة –فقد ادركت ذلك الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي فاختارت عنوان ( ذاكرة الجسد ) ليكون المسمى الرسمي لروايتها الشهيرة ، فللقلب ذاكرة – وللجسد ذاكرة … وللأماكن ذاكرة .. وللموسيقى وللأغاني ذاكرة ايضاً بل حتى للروائح والعطورات ذاكرتها الخاصة .. – وقد علم ذلك عبقري الرواية دوستويفسكي حينما كتب قصته الرائعة ( حلم رجل مضحك ) ليروي لنا سيرة الرجل الذي أراد الانتحار فيصوب فوهة المسدس على رأسه الا انه يتردد ويؤجل انتحاره قليلاً فيغط بالنوم بشكل مفاجأ –فيرى نفسه في المنام يصوب فوهة مسدسه على قلبه لا رأسه .. وكأنما أراد اسكات ذاكرة القلب لا الرأس!
فالذاكرة لغز لا نحسن التعامل معه او فك شيفرته .. فنحن لا نعلم كيف تذكرنا ولا نعرف لم نسينا! بل لا نغالي حينما نقول ان الذاكرة أي ذاكرة هي سلاح ذو حدين وكما اسلفنا من قبل فهي اما ان تكون خلاصاً واما ان تكون قصاصاً !
وبالعودة للصخرة والى الشقي سيزيف فالخلاص يكمن في فقدانه للذاكرة – وذلك هو الترياق لكل من يحمل صخرته على منكبيه ، فالخلاص هو بالنسيان .. الخلاص هو بالتخفف من ثقل الذكريات المؤلمة قدر المستطاع ، واذا لم نستطيع النسيان ولم نقدر على التخفف من الالام التي تسكن في الذاكرةعلينا اذاً ان نبنى فوق الذكريات ذكريات أخرى .. ذكريات اجمل .. والا سيكون قدرنا مثل قدر الشقي سيزيف .. نحمل صخرة الذكريات لتثقل علينا المضي والمسير في الحياة فنسقط ونتعثر في الهاوية في مشهد متكرر لا خلاص منه الا بالنسيان!.
2
الذاكرة مرتبطة بالزمن المعاش ، فلا ذاكرة بلا ماضي! بلا تجارب بلا مواقف .
وحينما نقرأ في ذاكرة الادباء والمفكرين نرى بطولتهم في استحضارهم للماضي بخيرة وشرةولاستحضارهم تجاربهم المفرحة والمبكية وذلك من خلال كتابة سيرهم الذاتية وتدوين رحلتهم في الحياة ليتبدل ماضيهم الى حاضرنا ولتتحولذاكرتهم الى كيان معنوي ملموس بين دفتي كتاب!
فيروي لنا عميد الادب العربي طه حسين في كتابه ( الأيام ) فصول من ذكرياته الحزينة والتي حصلت معه اثناء الطفولة حيث خطر له خاطر غريب فقرر ذات ليلة وهو على مائدة العشاء مع اسرته ان يأكل اللقمة بكلتا يدية بدل ان يأخذها بيد واحدة كما اعتاد وقد كان ذلك حيث غمس اللقمة بفمه مستخدماً كلتا يديه وحينها اغرقوا اخوته بالضحك والسخريةعليه ! اما والدته فقد اجهشت بالبكاء على ابنها الضرير واما والده فنهره عن هذا السلوك بكل هدوء! وقد بقيت هذه القصة المأخوذة من زمن الطفولة بمثابه الجرح العميق لدى عميد الادب حتى يوم كتابته سيرته في الأيام !
كما يضيف الروائي العالمي إبراهيم الكوني على لغز الذاكرة في سيرته الذاتية المعنونة بـ ( عدوسالسرى – روح أمم في نزيف ذاكرة ) بأن الذاكرة لا بد ان تستنطق حتى تروى! لابد ان يتم هدهدتها حتى تبوح بما تحويه! فالذكريات واستنطاقها بالنسبة للكوني هي بمثابه نزيف! نزيف ذاكره !
واما الروائي العالمي غابرييل غارسيا ماركيز – فقد كتب مذكراته ( عشت لأروي) حتى يخبرنا عن ألأمه وعن أحلامه واخيراً كتبها حتى يحتال على المرض! فلا يشيخ الكتاب ولا يصاب بالزهايمر! فهو القائل لا يوجد ما هو اخطر من الذكريات المدونة ، تلك الذكريات التي لا يمحوها أي شيء حتى الشيخوخة! وقد صدقت توقعاته حيث انتهى به المطاف ان فقد ذاكرته في أواخر أيامه!
3
الانسان مخلوق مكون من ذكرياته .
انت اليوم عبارة عن ذكريات الامس ، فكل التجارب والخبرات المعاشه في الماضي هي من صاغتك لتصبح ما انت عليه اليوم .
وقد ذكر عالم النفس سيغموند فرويد في كتابة ( التحليل النفسي ) انه اذا أراد معالجة احد مرضاه يذهب معه لأبعد ذكرى يستطيع ان يرويها عن نفسهثم يغوص معه في ذكريات الطفولة ليفتش عن الذكريات المكبوته وهي الذكريات التي حجبت باللاوعي عند الانسان ، وبمواجهة ذكريات الماضي (المؤلمة) والتصالح معها يتشافى واقع الانسان .
4
الماضي والذكريات علاقة طردية :
ولهذا قالوا من كانت ذكرياته اكثر من أحلامه فقد كبر بالسن !
5
انسان بلا ذكريات – انسان لا يقهر .
انسان بلا ذكريات – انسان سعيد .
6
النسيان – خلاص
الذاكرة – قصاص
يكون النسيان قصاص – حينما ننسى الواجب .
تكون الذاكرة خلاص – حينما نتذكر الواجب .
7
قال سقراط لاحد تلاميذه “تكلم حتى اراك” – وبذلك قصد سقراط انه حينما يتكلم المرء سيفصح عن نفسه ويكشف عن عمق أفكاره !
ولو تجرأت لأضيف على عبارة سقراط عبارة أخرى مفادها : تذكر حتى نراك ! .
فالذاكرة تقوم مقام الحياة لدى الانسان –فالذكريات تخبرنا عن اي شي نريد معرفته عن الانسان!
8
ثقل الماضي :
لا بأس من استحضار ذكريات الزمن الماضي ، فقد يحن الانسان الى الأيام الماضية الى طفولته الى بعض الاحداث التي حصلت في حياته السابقة وقد يشتاق الى بعض الأشخاص الذين رحلوا عن حاضرنا .. لا بأس في استحضار تلك الذكريات التي تشحن مشاعرنا بشكل مؤقت بلمسة حزن انيقة ومن ثم نعود لحاضرنا المعاش ، فـ ( الناستلوجيا ) او الحنين للماضي يحصل للأغلبية من الناس وانما المشكلة في الماضي ليست في استحضاره ، بل ان المشكلة في استحضاره للحاضر ومن ثم استبدال الحاضر بالماضي ، فيصير الماضي حاضراً معاشاً وحينها يبدأ الانسان قصاصه الخاص فيحمل صخرته على منكبيه قاصداً قمة الجبل ولا ينالها في صيرورة ابدية لا خلاص منها الا بالنسيان ، وترك الماضي للماضي ، فالماضي جميل طالما بقي ماضياً ، ولحظة استبداله بالحاضر يصير ثقلاً لا يمكن حمله للقمة مهما بذلت من جهد .. ولنا في سيرة الشقي سيزيف عظه وعبره ! .



